كانت مسودة قانون العمل المؤقت رقم (26) لسنة 2010 المكون من (39) مادة قد وضعت بالتوافق بين أطراف العمل الثلاثة (العمال، أصحاب العمل، الحكومة) وبعد استطلاع آراء ومقترحات الجهات الأخرى ذات العلاقة رسمية وأهلية ومن خلال اللجان التي شكلت لهذه الغاية، وتم فيها مراعاة معايير العمل الدولية والعربية التي التزم بها الأردن من خلال عضويته في منظمتي العمل الدولية والعربية ومصادقته على عدد من اتفاقيات العمل التي أصدرتها، واستهدفت عددا من المواضيع الهامة، منها تنظيم استخدام العمالة غير الأردنية وزيادة فرص تشغيل الأردنيين، وتحسين حقوق نهاية الخدمة (تعويض الفصل التعسفي، مكافأة نهاية الخدمة)، وتنظيم علاقات العمل الجماعية والمفاوضة الجماعية، وتوسيع صلاحيات اللجنة الثلاثية لشؤون العمل، وإعطاء النقابات العمالية ونقابات أصحاب العمل حرية أكبر في التنظيم وإدارة شؤونها وممارسة نشاطاتها وحماية ممثليها.
ومنذ عام 2010 وإلى الآن بقي القانون المؤقت في عهدة مجلس النواب بين شد وجذب في لجان العمل في المجالس المتعاقبة دون أن تعرض توصياتها تحت القبة، إلى أن حظي أخيرا بمناقشته في مجلس النواب، وإقرار عدد من مواده وتعديل مواد أخرى منه، حيث جاءت بعض التعديلات منسجمة مع معايير العمل الدولية، وبشكل خاص في إضافة تعريف للتمييز في الأجور القائم على الجنس، وتعريف للعمل المرن وأشكاله، وإقرار إجازة أبوة للعامل مدفوعة الأجر، وفرض عقوبة على التمييز في الأجور على أساس الجنس مع الحكم بفرق الأجور، ومنح سلطة الأجور صلاحية النظر في دعاوى التمييز في الأجور مهما كان نوع التمييز، وشمول إلزامية تهيئة مكان لرعاية الأطفال في مواقع العمل على رعاية أطفال "العمال الذكور والإناث".
إلا أن الأحكام الخاصة بالنقابات العمالية ونقابات أصحاب العمل لم تحظى بنفس التقدم، لا بل تراجع مجلس النواب عن العديد من الأحكام التي كانت تعتبر في القانون المؤقت خطوة متقدمة نحو تعزيز دور النقابات العمالية وفق معايير العمل الدولية التي تضمن لها حق التأسيس وإدارة شؤونها ووضع أنظمتها وممارسة نشاطاتها بكل حرية وحماية ممثليها وتطوير آليات التفاوض الجماعي، في الوقت الذي كان ينتظر من مجلس النواب تفهما أكبر لمتطلبات عمل النقابات وأكثر انسجاما مع معايير العمل الدولية.
فبعد أن كان القانون المؤقت قد أعفى النقابات من عرض أنظمتها الداخلية على وزارة العمل للمصادقة عليها واكتفى بأن تودع نسخة منها في الوزارة، عاد مجلس النواب ليضع شرطا يوجب أن يتم تصديق الأنظمة من وزارة العمل، الأمر الذي يشكل مخالفة صريحة للمعايير الدولية التي التزمت بها المملكة، ومنها الإتفاقيتين الأساسيتين لمنظمة العمل الدولية (98) و(87) الخاصتين بالحرية النقابية وحق التنظيم والمفاوضة الجماعية، وما جاء في المادة الثالثة من الإتفاقية (87) التي أكدت على حق منظمات العمال ومنظمات أصحاب العمل في وضع دساتيرها ولوائحها الإدارية، دون أي تدخل من شأنه أن يقيد هذا الحق.
كما أعطى مجلس النواب في التعديلات التي أقرها لوزير العمل صلاحية حل الهيئة الإدارية للنقابة وتعيين هيئة إدارية مؤقتة لتسيير أعمال النقابة، بعد أن كان أمر حلها في القانون الأصلي من اختصاص القضاء أو بقرار من هيئتها العامة، وهو ما يعتبر تراجعا يخالف مبدأ أساسيا من مبادئ الحرية النقابية وحق التنظيم، ومخالفة لأحكام الإتفاقية الدولية المشار إليها أعلاه التي نصت في المادة الرابعة منها على عدم جواز قيام السلطات الإدارية في الدولة بحل منظمات العمال ومنظمات أصحاب العمل أو وقف نشاطها.
وكان القانون المؤقت قد نقل صلاحية تصنيف الصناعات والأعمال لغايات تأسيس النقابات من وزير العمل إلى اللجنة الثلاثية لشؤون العمل المشكلة بالتساوي من ممثلي منظمات العمال ومنظمات أصحاب العمل والحكومة، في خطوة تعتبر إيجابية باتجاه توفير حرية أكبر للتنظيم النقابي مبني على تشاور ثلاثي بدلا من أن يكون القرار محصورا بيد الحكومة وحدها، إلا أن مجلس النواب عاد عن ذلك وأعطى صلاحية التصنيف للوزير من خلال مسجل النقابات في الوزارة، رغم أن معايير العمل الدولية تشترط على العكس من ذلك أن يكون للعمال ولأصحاب العمل دون تمييز الحق في تكوين المنظمات التي يختارونهاودون ترخيص مسبق، وأوجبت أن لا ينطوي قانون البلد على مساس بأي من الضمانات الخاصة بالنقابات أو أن تطبق بطريقة فيها مساس بهذه الضمانات.
وفي مجال المفاوضات الجماعية أضاف مجلس النواب أحكاما لا يمكن تفسيرها إلا بأنها استجابة لضغوطات تمثل ميلا لمصالح أصحاب العمل على حساب مصالح العمال، الأمر الذي سيتسبب في خلل واضح في توازن العلاقة بين طرفي العمال وأصحاب العمل، خاصة في النص الذي حظر على أي نقابة التقدم بأي مطالب ترتب التزامات مالية على أصحاب العمل إذا كانت متعثرة مالياً بناءا على ميزانية مُعدة من قبل مدقق حسابات قانوني معتمد، وهو حظر يسلب صلاحيات جهات النظر في النزاع العمالي التي يفترض بها أن تكون هي المختصة في النظر فيما إذا كانت المؤسسة متعثرة أم لا، ومن ذلك المحكمة العمالية التي تختص بحسم النزاع الجماعي بناءا على بينات يقدمها الطرفين، أما منع التقدم بأي مطالب لمجرد وجود ميزانية من مدقق حسابات تشير إلى تعثر المؤسسة فهو أمر يخالف المبادئ القانونية الراسخة في النزاعات التي تعتبر مثل هذه الوثائق بينة تتطلب تدقيقها ووزنها ضمن مجمل بينات طرفي النزاع للوصول إلى القرار النهائي الحاسم، يضاف إلى ذلك ما أضافه المجلس من زيادة مدة عقد العمل الجماعي إلى ثلاث سنوات كحد أقصى بدلا من سنتين، وهي مدة يحظر خلالها على النقابة العمالية إثارة أي نزاع متعلق بموضوع الإتفاقية، وهي مدة طويلة نسبيا ستؤدي إلى تعطيل جهود النقابات في حماية حقوق العاملين ورعاية مصالحهم.
إن الإصرار على هذه التعديلات سيكون له عدد من التداعيات سواء على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي، فاستقرار علاقات العمل لا يمكن أن يتحقق دون حركة نقابية لديها المرونة الكافية لإدارة شؤونها وممارسة نشاطاتها بكل حرية بما يمكن أن يقنع قواعدها في القطاعات التي تمثلها بحقيقة قدرتها على حماية حقوقهم والدفاع عنها وتمثيلهم التمثيل الحقيقي المعبر عن طموحاتهم ومصالحهم، وهذا لا يتحقق أيضا دون انفتاح أكبر على آليات التفاوض المتوازن مع أصحاب العمل ومنظماتهم دون قيود تزيد في إحباط العاملين وتمنعهم من الوصول إلى حقوقهم، أما على المستوى الدولي فإن إقرار هذه التعديلات سينعكس سلبا على صورة الأردن في مجال حقوق الإنسان بشكل عام، وفي مجال الحقوق الأساسية للعمل التي يتوجب على الدولة احترامها بمجرد عضويتها في منظمة العمل الدولية، وسيؤدي إلى ردود فعل سلبية من الأجهزة الرقابية في المنظمة وإصدار تقارير ستؤثر سلبا على مصالح المملكة، الأمر الذي يتطلب من الحكومة ومجلسي النواب والأعيان الأخذ بعين الإعتبار هذه التداعيات وإعادة مراجعة هذه التعديلات على هذا الأساس قبل إقرارها بصورتها النهائية.