شهد هذا العام تحديات إقتصادية غير مسبوقة مرت بها البلاد نتيجة جائحة كورونا، والتأثيرات السلبية المباشرة وغير المباشرة التي تسببت بها على مختلف قطاعات العمل، والتداعيات التي خلفتها على الوظائف والإنتاج، في أصعب أزمة محلية وعالمية يواجهها سوق العمل الأردني، سبقها في السنوات الأخيرة انحسار ملموس في قدرة الإقتصاد الوطني على استحداث فرص العمل، لتصل معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة في نهاية عام 2019 (19.1%)، وهي النسبة الأسوأ في تاريخ المملكة، فاقت المعدلات التي سادت ما بعد الأزمة المالية التي شهدها الأردن في ثمانينيات القرن المنصرم.
وبات الاقتصاد الأردني يقف أمام واقع وتحد جديد يتمثل في توقعات تراجع النشاط الاقتصادي خلال عام 2020 بحوالي (-5.8)، الأمر الذي يعني فقدان آلاف العاملين وظائفهم، لا سيما العاملين في القطاع غير المنظم. وكشفت الأزمة النقاب عن الهشاشة التي يعاني منها سوق العمل والإفتقار إلى متطلبات الحماية الإجتماعية بين فئات العمالة، خاصة فئات العاملين في القطاع غير المنظم الذين يمثلون 48% من مجموع العاملين في المملكة، وظهر جليا خلال الأزمة مدى تعرض هذه الفئة لخطر فقدان الدخل اللازم لمعيشتهم وأسرهم، في ظل المؤشرات التي تؤكد اتساع هذه الفئة على حساب القطاع المنظم نتيجة فقدان الآلاف من الوظائف.
الأمر الذي يتطلب منا أن نبني منظومة من القواعد التي تدعم بشكل أفضل الفئات الأكثر ضعفًا وتحقق الحماية اللازمة لهم، سواء من حيث شمولهم بالتأمينات الإجتماعية أو بالحمايات القانونية الأخرى في تشريعات العمل بشكل خاص، ووضع سياسات فعالة لذلك أسوة بغيرهم من العاملين كخطوة أولى نحو تشجيع انتقالهم من الإقتصاد غير المنظم إلى الإقتصاد المنظم. ورغم أن جميع القطاعات الاقتصادية قد تعرضت لتأثيرات سلبية نتيجة الوباء، إلا أن هذه التأثيرات كانت متفاوتة من قطاع لآخر، كما امتد هذا التأثير على مستوى الأفراد والوظائف في القطاع الخاص بسبب عدم استحداث الوظائف إضافة إلى إلغاء وظائف قائمة، وكذلك على مستوى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، خاصة وأن ما يقرب من نصف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وهي المشغل الأكبر في المملكة والتي تشكل ما يقرب من (90%) من المؤسسات أفصحت أنها لا تثق بقدرتها على الصمود أمام الأزمة.
وكانت بعض فئات العاملين أكثر تأثرا بأزمة الوظائف وفقدان الدخل من فئات أخرى، مما فاقم من مشكلة عدم المساواة، وبشكل خاص من يعملون في وظائف أقل حماية وأدنى أجراً، لا سيما العمالة المهاجرة والشباب والعاملين الأكبر سناً والنساء، بسبب ضعف الحماية الإجتماعية، وبسبب تركزهم بنسب كبيرة في الوظائف متدنية الأجر وفي القطاعات المتضررة. وفي المقابل لم ترق الإجراءات الحكومية في التعامل مع الآثار المتوقعة للجائحة على سوق العمل إلى مستوى التصدي الفعال لإتساع شريحة المتعطلين عن العمل في ظل الخيارات المحدودة المتاحة، واقتصرت على ردود أفعال محدودة وغير مدروسة في إطار محاولة تخفيف الأعباء عن أصحاب العمل من خلال السماح بتخفيض أجور العاملين، الأمر الذي فاقم الأزمة وزاد من الصعوبات الإقتصادية التي تواجهها مؤسسات القطاع الخاص نتيجة انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين التي سببتها هذه الإجراءات، ولم تفلح مساعي الحكومة في التخفيف من حالات فقدان الوظائف، فزادت معدلات البطالة إلى ما يقرب من 24%، حيث انضم إلى صفوف البطالة أكثر من 100 ألف متعطل جديد.
ونتيجة لذلك فمن المتوقع استمرار اتساع شريحة الفقراء والمتعطلين عن العمل في العام القادم، وانخفاض النمو الإقتصادي، حيث سيتأثر سوق العمل من جوانب متعددة، بسبب عدم قدرة الإقتصاد على توليد فرص عمل جديدة وتراجع الإستثمارات، وبالتالي انخفاض معدلات المشاركة الإقتصادية، خاصة مشاركة المرأة التي عادة ما تكون أقل قدرة على الحصول على فرص عمل من الذكور، حيث ستزيد الأزمة في عزلتها وبعدها عن سوق العمل وانضمامها إلى صفوف المحبطين الذين يتوقفون عن البحث عن فرصة العمل لشعورها بعدم جدوى ذلك، كما يتوقع زيادة نسب تشغيل الأطفال، في الأسر التي لن تجد لها حلا إلا باستخدام أطفالها في العمل.
وفي ظل هذه التداعيات فمن المفترض العمل على تعزيز قدرات شبكات الأمان الإجتماعي وزيادة مخصصاتها وتوجيهها لمختلف الفئات الضعيفة من المواطنين ومختلف الأسر منخفضة الدخل، وكذلك الإستمرار في تقديم المساعدات النقدية والعينية العاجلة لهم، وزيادة قيمة الإعانات، وتوسيع الفئات المستفيدة منها، وتوسعة الشمول بالتأمين الصحي لكل من لا يحظى بتأمين رسمي أو خاص، وتخفيض قيمة الإشتراك في الضمان الإجتماعي، وكذلك توفير الدعم اللازم للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة للحفاظ على ديمومة عملها وحماية فرص العمل التي توفرها، ومن ذلك إعادة جدولة استحقاق القروض لفترة زمنية تتناسب مع المدة المتوقعة للأزمة، والتوسع في الإعفاءات والتسهيلات والقروض المخصصة لها، وزيادة القدرة الشرائية للمواطن وإعفاء السلع الأساسية التي يحتاجها من الضريبة بهدف إنعاش الحركة الإقتصادية.
كما يجب العمل بصورة عاجلة على إصلاح السياسات التعليمية للحد من زيادة معدلات البطالة بين فئة الجامعيين، والتوجه نحو تأهيل العمالة التقنية والفنية التي يفتقد إليها سوق العمل في كثير من القطاعات، وتفعيل التنسيق اللازم مع القطاع الخاص لرصد احتياجاته الحقيقية من التخصصات ومن البرامج التي تنسجم مع المتطلبات الفنية لأعماله، ووضع استراتيجيات وطنية شاملة تجمع بين السياسات والبرامج التعليمية من جهة، وسياسات وبرامج التشغيل والتدريب والتعليم المهني والتقني من جهة أخرى، وهي إجراءات سوف تحد من العوامل التي تسهم في الزيادة المتوقعة في معدلات البطالة وتفاقمها وفقدان الوظائف بصورة تنذر بآثار سلبية على الأمن الإجتماعي.